بقلم: عمرو الختالي
باحث في الاقتصاد السياسي و صناديق الثروة السيادية
إن انخفاض أسعار النفط في الاثني عشر شهراً الأخيرة قد أخذ الأسواق والمستثمرين على حين غرة. فقد تأثرت مؤسسات الدول، مثل صناديق الثروة السيادية، كما عانت ميزانياتها. غير أن صناديق الثروة السيادية ستنمو بصورة بطيئة، وفي الكثير من الحالات ستشهد انخفاضاً في قيمة بعض أصولها أو تسييلاً لها من أجل مساعدة حالات العجز في الموازنات الحكومية. كما ستتأثر احتياطيات الدول من النقد الأجنبي كذلك.
يوجد ما يزيد عن 77 صندوق ثروة سيادية يبلغ مجموع أصولها أكثر من 7.1 تريليون دولار أمريكي، وتمثل الأموال المتعلقة بالنفط والغاز ما قيمته 4 تريليون دولار أمريكي منها. ومع نهاية عام 2015 كان ما يزيد عن 56 في المائة من أصول صناديق الثروة السيادية يأتي من بيع المنتجات ذات العلاقة بالنفط والغاز. وتمثل هذه الأموال ما نسبته 5-10% من إجمالي الأموال المستثمرة في الأسواق العالمية.
وفي الأشهر الستة الأخيرة شهد مدراء الاستثمار زيادة في تدفق رأس المال إلى هذه الصناديق بما يبلغ مجموعه 19 مليار دولار أمريكي في الربع الأخير من عام 2015، وذلك استناداً إلى مزود البيانات eVestment. ومع استمرار هبوط أسعار النفط من 120 دولار أمريكي قبل عشر سنوات إلى ما دون 30 دولار أمريكي في بداية شهر يناير 2016، يزداد قلق العديد من الحكومات في منطقة الخليج وأفريقيا وآسيا حيال مستقبل إدارة ميزانياتهم وتلبية الطلبات المالية الداخلية والالتزامات الاستثمارية المحلية. ولن تكون ليبيا وصندوق ثروتها السيادية استثناءاً من ذلك.
ولنُلقِ نظرة على بعض الأرقام والبيانات بغية إعطاء القارئ فكرة عن مدى سوء الأوضاع.
قامت “مؤسسة النقد العربي السعودي” Saudi Arabian Monetary Agency (SAMA)، وهي ذراع المملكة الاستثماري، بتسييل وسحب أكثر من 70 مليار دولار أمريكي من المدراء الخارجيين في الأشهر الستة الأخيرة من أجل دعم إنفاقها واقتصادها المحليين. ويقدّر بعض المحللين الرقم الحقيقي بأنه أكبر من 100 مليار. واستناداً إلى “ناسداك” NASDAQ، تشير التقديرات إلى أن “مؤسسة النقد العربي السعودي” SAMA قد سحبت أكثر من 1.3 مليار دولار أمريكي من الأسهم الأوربية فقط.
واستناداً إلى النشرات والكشوفات الرسمية الصادرة عن “بنك كازاخستان المركزي” Central Bank of Kazakhstan، يُتوقع من الحكومة أن تسحب 28.2 مليار دولار أمريكي من صندوق ثروتها السيادية في السنوات الثلاث القادمة بغية تغطية الخسائر في الإيرادات المتعلقة بالنفط. وحذّر رئيسها السيد “نور سلطان” Mr. Nursultan في السنة الماضية من أن إيرادات ميزانية حكومته قد هبطت بمقدار 40 في المائة بسبب أسعار النفط المتدنية. فقد هبط صندوق كازاخستان للثروة السيادية، والذي تبلغ قيمته 64.2 مليار دولار أمريكي، بمقدار 18%، ومن المتوقع له أن ينضب في غضون 10 سنوات أو أقل إذا ما بقيت أسعار النفط عند مستواها الحالي.
أعلن “جهاز قطر للاستثمار” Qatar Investment Authority (QIA) في شهر أكتوبر من عام 2015 عن بيعه أسهمه في شركة الإنشاءات الألمانية Hochtief والتي تبلغ 10% والمقدرة قيمتها بـ 615 مليون دولار أمريكي. كما باع الجهاز حصصاً في تكتل الإنشاءات الفرنسي French construction conglomerate (Vinci) وفي مباني المكاتب بلندن London office buildings. وكذلك فإن الجهاز يجري محادثات لبيع استوديو الأفلام “ميراماكس” Miramax.
وقد ورد أن وزير المالية القطري قد قال إن حكومته ستضطر إلى اقتراض 12.8 مليار دولار أمريكي لتغطية العجز في ميزانية عام 2016. وقد تم وضع العديد من المشاريع الحكومية على قائمة الانتظار، كما تم الاستغناء عن الكثير من العمالة.
أما النرويج التي تمتلك أكبر صندوق ثروة سيادية في العالم فقد خسرت ما تزيد قيمته عن 120 مليار دولار أمريكي، وذلك من 900 مليار دولار أمريكي في نهاية عام 2014 إلى ما قيمته 780 مليار دولار أمريكي حالياً. واستناداً إلى “إيجيل ماتسن” Egil Matsen، نائب محافظ البنك المركزي المسؤول عن مراقبة المستثمرين، فإن صندوق النرويج لن يبيع أياً من أصوله لتغطية الخسائر في الإيرادات الحكومية والعجز في الميزانية في عام 2016. ويبدو “ماتسن” Matsen واثقاً جداً من أن حكومته ستتمكن من تدبير أمورها دون الاضطرار إلى أن تمد يدها إلى أيٍّ من أموال الصندوق المقررة للاستعمال بعيد المدى.
شهدت ميزانية الكويت عجزاً قدره 3.6 مليار دولار أمريكي في الأشهر الخمسة الأولى من سنتها المالية الحالية. وقد اتخذت حكومة الكويت إجراءات لتغطية هذا العجز من خلال زيادة ضرائب الشركات على الأرباح وزيادة الضرائب على الخدمات والتخلي عن الدعم الحكومي. وعلى الرغم من أن حكومة الكويت تعاني من عجز في عام 2016، إلا أنها ما تزال تساهم في صندوق ثروتها السيادية. فهي ستضيف 10% من إيرادات النفط إلى الصندوق بدلاً من نسبة الـ 25% المُشرَّعة.
ستعاني الجزائر من عجز قدره 23 مليار دولار أمريكي في ميزانية عام 2016. فالنفط يشكل أكثر من 60% من إيراداتها. لكن العديد من المحللين يتوقعون أن الحكومة ستضطر في لحظةٍ ما إلى أن تمد يدها إلى “صندوق تنظيم الإيرادات” Revenue Regulation Fund البالغة قيمته 50 مليار دولار أمريكي من أجل تلبية التزاماتها المالية. ففي الأشهر الاثني عشر الأخيرة اضطرت الجزائر إلى أن تمد يدها إلى احتياطيها من النقد الأجنبي لتلبية التزاماتها المالية. فانخفضت احتياطياتها من 178 مليار دولار أمريكي في نهاية عام 2014 إلى حوالي 150 مليار دولار أمريكي في نهاية عام 2015. كما شهدت الجزائر انخفاضاً في احتياطيات النقد الأجنبي بما يزيد عن 12%. وهي تدرس حالياً فرض زيادات في الضرائب، وفي الرسوم على الواردات، وفي أسعار الوقود والكهرباء المدعومَيْن.
وهناك أعداد لا تُحصى من الأمثلة الأخرى من أنحاء العالم حول تأثير الهبوط في سعر النفط. فقد انخفض “صندوق الاستقرار” Stabilization Fund المملوك للدولة في تشيلي إلى 14 مليار دولار أمريكي من 15.5 مليار دولار أمريكي في عام 2014. وكذلك انخفضت احتياطيات أذربيجان من النقد الأجنبي إلى 7.3 مليار دولار أمريكي من 16.5 مليار دولار أمريكي في عام 2014. وهبطت احتياطيات نيجيريا من النقد الأجنبي من 84 مليار دولار أمريكي في عام 2013 إلى 28.7 مليار دولار أمريكي في الوقت الحاضر.
تبيّن هذه الأمثلة كلها كيف كان تأثير تخمة النفط على اقتصاديات البلدان المنتجة للنفط. ولن تكون ليبيا في مأمن من ذلك. وفي الحقيقة فإن ليبيا ستعاني من أكبر تأثير، وذلك للأسباب التالية:
توقف الاقتصاد الليبي الصغير منذ عام 2011. فقد انخفض إنتاج ليبيا من النفط من 1.6 مليون برميل في اليوم في عام 2010 إلى 362,000 برميل في اليوم في الوقت الحاضر. أما بعض موانئ التصدير فإما قد تعرضت للأضرار أو هي تحت سيطرة الميليشيات.
الوضع السياسي الراهن في ليبيا بحكومتين اثنتين، وبلاد منقسمة، وهبوط قياسي في قيمة العملة مقابل الدولار واليورو إلى 300%، وبطالة عالية، وقطاع وظائف حكومية كبير، وغذاء ووقود مدعومَيْن بتكلفة عالية، وانعدام خيارات الإيرادات البديلة سيجعل تحقيق التوازن في الميزانية أمراً بالغ الصعوبة على المصرف المركزي والحكومة.
اضطرت الحكومة الليبية في السنوات الأربع الماضية لأن تمد يدها إلى احتياطياتها من النقد الأجنبي بوتيرة قياسية من أجل تغطية رواتب الوظائف الحكومية الكبيرة التي تشكل 30 في المائة من مجموع السكان تقريباً.
الاقتصاد الليبي في حالة فوضى في الوقت الحاضر، والتضخم في ازدياد.
ستستمر معاناة الاقتصاد الليبي في الوقت الحاضر حتى لو تم حل الوضع السياسي في البلاد. فمع هبوط سعر النفط إلى أقل من 30 دولار أمريكي، وكلفة الإنتاج تبلغ حوالي 23 دولار أمريكي، أخشى أن لا تجد الحكومية الليبية خياراً سوى استهلاك احتياطياتها من العملة وبيع بعض الأصول من صندوق ثروتها السيادية، المؤسسة الليبية للاستثمار Libyan Investment Authority (LIA)، من أجل تلبية التزاماتها المالية تجاه الشعب والبلاد.
يستحسن تأجيل برامج التنمية لبعض الوقت. ويجب على الحكومة اتخاذ إجراءات جادة وصارمة تجاه تقليل الإنفاق ووضع خطط مستقبلية حول كيفية الخروج من هذه الفوضى.
أدناه نموذج من آراء الخبراء حول الكيفية التي سيؤثر بها هبوط أسعار النفط على صناديق الثروة السيادية:
يقول “ألبيرتو غالو” Alberto Gallo، رئيس “بحوث الائتمان الكلي” Macro Credit Research في “المصرف الملكي الاسكتلندي” Royal Bank of Scotland: “إذا استمر الهبوط الحالي في أسعار النفط فإنه سيؤثر على قيمة العديد من صناديق الثروة السيادية وقابلياتها على ضخ المال في عالم الاستثمار”. ويضيف قائلاً: “إن البترودولار يتحول إلى بتروسنتات”. واستناداً إلى المصرف، فقد انخفض التدفق الإجمالي للبترودولار في الاقتصاد العالمي إلى 200 مليار دولار أمريكي في العام الماضي من 800 مليار في عام 2012.
استناداً إلى مدونة IMF direct: “من المحتمل أن تقوم الحكومات بتحويل إيراداتٍ أقل من السابق إلى صناديق الثروة السيادية هذه. وفي الوقت نفسه فمن المحتمل أن تزداد الضغوط على السحب من أصول صناديق الثروة السيادية”.
تقول “إيلينا دوغار” Elena Duggar، نائبة رئيس مؤسسة “موديز” Moody’s: “نتيجة لذلك، نتوقع استعمالاً متزايداً لأصول صناديق الثروة السيادية من أجل تمويل حالات العجز في الميزانيات ودعم الاقتصادات المحلية.”
وأضاف “جيفري ليفاي” Jeffrey Levi، الشريك في مؤسسة “كيسي كويرك وشركاؤه” Casey Quirk & Associates، وهي مؤسسة استشارية في إدارة الاستثمارات: “هناك ضغط كبير على الحكومات بسبب هبوط أسعار النفط، وهي تتطلع إلى الصناديق السيادية للحصول على تدفقات نقدية.”
من المتوقع استمرار التدفقات في عام 2016. فقد قال “روبرت كالاغي” Robert Callagy، موظف الائتمان الأقدم في مؤسسة “موديز” Moody’s المتخصصة بالتصنيف: “ستتعرض البلدان المعتمدة على الموارد إلى ضغوطات متزايدة لاستعمال أصول صناديق الثروة السيادية من أجل وقف حالات العجز في الميزانية ودعم الاقتصادات المحلية. ولابد أن يؤدي هذا إلى قيام صناديق الثروة السيادية بمزيد من السحب من مدراء الأصول الخارجيين.”
سيؤثر الوضع الاقتصادي الصعب في ليبيا تأثيراً شديداً على صندوق ثروتها السيادية، المؤسسة الليبية للاستثمار Libyan Investment Authority (LIA). وسيتوجب على الحكومة الليبية الحالية أو المستقبلية أن تتعامل بمزيد من الجدية مع هذا الانخفاض في الإيرادات وتضع خطة عمل تأخذ بعين الاعتبار ديونها الحالية واحتياطياتها من النقد الأجنبي وصندوق ثروتها السيادية البالغة قيمته 67 مليار دولار أمريكي والذي يعاني من إدارة سيئة بسبب المناخ السياسي الحالي.